الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.[سورة البقرة: آية 150]: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}.وقوله سبحانه: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ} [150] فهذه استعارة على قول من قال: إن الشطر هاهنا البعد. أي ولّ وجهك جهة بعده. إذ لا يصح أن تولى وجهك جهة بعد المسجد على الحقيقة..[سورة البقرة: آية 168]: {يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}.وقوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ} [168] أي لا تنجذبوا في قياده، لأن المنجذب في قياد غيره تابع لخطواته. وهذه من شرائف الاستعارة. فهى أبلغ عبارة عن التحذير من طاعة الشيطان فيما يأمر به، وقبول قوله فيما يدعو إلى فعله. فهذه من شرائف الاستعارات..[سورة البقرة: الآيات 174- 175]: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}.وقوله تعالى: {ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [174]. وهذه استعارة. كأنهم إذا أكلوا ما يوجب العقاب بالنار كان ذلك المأكول مشبها بالأكل من النار. وقوله سبحانه: {فِي بُطُونِهِمْ} زيادة معنى، وإن كان كل آكل إنما يأكل في بطنه، وذلك أنه أفظع سماعا، وأشدّ إيجاعا. وليس قول الرجل للآخر: إنك تأكل النار، مثل قوله: إنك تدخل النار في بطنك.وقوله تعالى: {أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ} [175] وقد مضى نظير ذلك، وأمثاله كثيرة في هذه السورة وغيرها..[سورة البقرة: الآيات 187- 188]: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}.وقوله تعالى في ذكر النساء: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} [187].واللباس هاهنا مستعار، والمراد به قرب بعضهم من بعض واشتمال بعضهم على بعض، كما تشتمل الملابس على الأجسام. وعلى هذا المعنى كنوا عن المرأة بالإزار.وقوله سبحانه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ} [187] وهذه استعارة، لأن خيانة الإنسان نفسه لا تصح على الحقيقة، وإنما المراد أنه سبحانه خفّف عنهم التكليف في ليالى الصيام، بأن أباحهم فيها مع أكل الطعام وشرب الشراب الإفضاء إلى النساء، ولو منعهم من ذلك لعلم أن كثيرا منهم يخلع عذار الصبر، ويضعف عن مغالبة النفس، فيواقع المعصية بفعل ما حظر عليه من غشيان النساء، فيكون قد كسب نفسه العقاب، ونقصها الثواب. فكأنه قد خانها في نفى المنافع عنها، أو جرّ المضار إليها. وأصل الخيانة في كلامهم: النقص، فعلى هذا الوجه تحمل خيانة النفس.وقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [187]. وهذه استعارة عجيبة. والمراد بها على أحد التأويلات: حتى يتبين بياض الصبح من سواد الليل. والخيطان هاهنا مجاز. وإنما شبّها بذلك لأن خيط الصبح يكون في أول طلوعه مستدقا خافيا، ويكون سواد الليل منقضيا مولّيا، فهما جميعا ضعيفان، إلا أن هذا يزداد انتشارا، وهذا يزداد استسرارا.وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} [188].وقوله تعالى: {رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا} [250] فهذه استعارة. كأنهم قالوا: أمطرنا صبرا، واسقنا صبرا. وفى قوله: {أفرغ} زيادة فائدة على قوله: أنزل، لأن الإفراغ يفيد سعة الشيء وكثرته وانصبابه وسعته..[سورة البقرة: آية 257]: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)}.وقوله سبحانه: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ} [257] وهذه استعارة. والمراد بها إخراج المؤمنين من الكفر إلى الإيمان، ومن الغى إلى الرشاد، ومن عمياء الجهل إلى بصائر العلم.وكلّ ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات إلى النور فالمراد به ما ذكرنا.وذلك من أحسن التشبيهات. لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط، ويضل القاصد. والإيمان كالنور الذي يؤمه الحائر، ويهتدى به الجائر. لأن عاقبة الإيمان مضيئة بالإيمان والثواب، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب. وفى لسانهم وصف الجهل بالعمى والعمه، ووصف العلم بالبصر والجلية. يقال: قد غمّ عليه أمره، وأظلم عليه رأيه. إذا كان جاهلا بما يرتئيه ويفعله. ويقال في نقيض ذلك: هو على الواضحة من أمره، والجلية من رأيه. إذا كان عالما بما يورد ويصدر، فيما يأتى ويذر..[سورة البقرة: آية 283]: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِبًا فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}.وقوله سبحانه: {وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [283]. وذلك مثل قوله تعالى: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} لأن الآثم والكاسب صاحب القلب، دون القلب على ما تقدم من القول. اهـ..فصل في التفسير الموضوعى للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:سورة البقرة:اتجهت الجهود بعد الهجرة إلى تكوين المجتمع الإسلامى الأول في المدينة المنورة، لقد نجح المسلمون أفرادا في مقاومة فتن الوثنية، وهاهم أولاء قد خلصوا بدينهم، ووجدوا دارا تجمع أمتهم، وتقيم دولتهم، لكنهم فوجئوا بعداوة من نوع آخر، عداوة اليهود الذين حسبوا الدين حكرا على جنسهم، فتجهموا للمنافسين الجدد، وشرعوا يستعدون لمقاومتهم، ويتآمرون سرا وعلنا على الكيد لهم، والقبائل اليهودية التي استوطنت البقاع الخصبة في الحجاز، بدأت حياتها فارة بعقائدها من بطش الرومان، وقد عاشت بين العرب الأميين مترفعة عليهم، فما حاولت محاربة الأصنام، ولا أنشأت دعوة إلى الله، ولا عرضت تعاليم السماء لتغنى عن تعاليم الأرض، كلا، لقد نأت بنفسها، واستراحت إلى مواريثها، وظنت أن الدين امتياز لها، ما ينبغى أن يشركهم فيه أحد!! فهل بقيت على هذا الشعور عندما ظهر الإسلام؟ لا، لقد رفضته، وقلبت له الأمور... وحاول النبي الخاتم أن يستلين جانبهم، ويتعاون على الخير معهم، بيد أن حقدهم غلب، وبدأ شرهم ينمو، فكان المسلمون في مهجرهم الذي ظفروا به يبنون بيد، ويقاومون بأخرى! يؤسسون مجتمعهم وفق إشارات الوحى، ويدفعون عنه أعداء لا يخفى لهم ضغن!! في هذا الجو نزلت سورة البقرة أطول سور القرآن الكريم وأحفلها بالتعاليم المنوعة... وبطريق التلميح أشارت إلى زيف ما بأيدى اليهود {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} كأن الكتب الأخرى موضع ريبة، وكأن ما فيها من خليط لا يصنع تقوى، ولا يزكى سيرة! وخلال المتقين التي أحصتها سورة البقرة كثيرة، فقد تكررت مادة التقوى خلال السورة بضعا وثلاثين مرة، لا تشبهها في ذلك سورة أخرى، والتقوى هي الصفة الجامعة التي طلبت من سائر الأمم في شتى الرسالات {ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.وتمتاز سورة البقرة بأنها تحدثت عن أركان الإسلام الخمسة {يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم} {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين} {يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} {وأتموا الحج والعمرة لله}. وقد ظلت السورة مفتوحة يضم إليها النبي الكريم ما شاء الله أن يضيفه إليها من وحى يتصل بموضوعها. ومعروف أن آخر آية نزلت من القرآن كله هي قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون} وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بضمها إلى الآيات التي تتحدث عن الربا في خواتيم سورة البقرة... وننظر إلى الصفحات الأولى من السورة، فنجدها وصفت الأتقياء في ثلاث آيات، ووصفت الكافرين في آيتين، ووصفت المنافقين في ثلاث عشرة آية! وذلك يدل على استطارة شرهم وخطورة أثرهم على الجماعة كلها، وبعد دعوة عامة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، وحديث وجيز عن إعجاز القرآن الكريم، وصدق صاحبه، وخسار عدوه، عاد الحديث إلى صنوف الناس بإزاء الرسالة، وتباين مواقفهم بين مؤمن وكافر، أو بين ناقض للعهد وموفي، أكان رب العالمين جديرا بهذا الموقف الخسيس؟ هل جزاء النعمة المسداة، نعمة الإيجاد والإمداد أن نكفر صاحبها؟ وبهذا الكنود!!.{كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون}. وكان طبيعيا بعدئذ ذكر بدء الخلق، وتكليف البشر، والصراع الدائم بين آدم وبنيه، وإبليس وذريته! إن هذا الصراع ظهر في صورة عداوة مرة بين خاتم الدعاة وبنى إسرائيل، الذين آثروا أن يكونوا جند إبليس في معركته الخالدة ضد الحق، كان لابد- وسورة البقرة أول ما نزل بالمدينة- أن تتصدى السورة لبنى إسرائيل، مفندة موقفهم من الرسالة الخاتمة، ومسالكهم المعيبة في القديم والحديث!!وبدأ ذلك من قوله تعالى: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ولا تكونوا أول كافر به} وتصديق القرآن لما مع اليهود إنما هو تصديق على الإجمال، فأهل الكتاب ليسوا كعبدة الأوثان في الكفر بالله وإنكار الوحى الذي أنزل على المرسلين! إن القرآن يصدقهم فيما يذكرون من إيمان بالله، وإثبات للوحى، وتكليف للناس، وحساب على الأعمال! لكنه لا يصدقهم حين يذكرون أن الله مثلا ندم على إغراق الأرض بالطوفان، ثم ندم على ما صنع واحتاج إلى من يذكره حتى لا يفعلها مرة أخرى! إنه لا يصدق العهد القديم حين يذكر أن الله نزل يتمشى على الأرض ثم مال إلى نبيه إبراهيم حيث تناول معه الغداء..!! ولا يصدقه حين يذكر أن الله صارع يعقوب ليلا طويلا، ثم لم يفلته حتى منحه لقب إسرائيل! إن تصديقه لما مع بنى إسرائيل هو- على الإجمال لا على التفصيل- والمجمل الذي سلمه لهم، أو وافقهم عليه إنما ذكره ليحاسبهم على ضوئه حسابا عادلا. وقد أحصت سورة البقرة أكثر من ست عشرة مرة شئونا وقضايا عرضت للقوم في تاريخهم الطويل، وذكرت لديهم في التوراة، ومع ذلك لم يكونوا عند حسن الظن في الاعتبار بها وشكر الله عليها. ويبدأ هذا الإحصاء من قوله تعالى: {وإذ نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب} هل قدروا نعمة هذه النجاة؟ ثم عاقب الله عدوهم فأغرقهم أمام عيونهم، فهل شعروا بعدالة هذا القصاص، وحمدوا ربهم على هلاك الظلمة؟ واتصل السرد القرآنى في صفحات طوال يذكر ويتساءل! فهل استيقظ الضمير اليهودى بعد هذه القائمة من الحساب الطويل أم بقى أكفر من عبدة الأوثان بنبى القرآن؟ هذا ما سجلته سورة البقرة من تاريخ القوم لتخلص منه إلى شأن أهم هو ما نسميه بالوحدة الدينية كما صورها القرآن الكريم في هذه السورة.فى وجه تعصب دينى ضيق ينشد الإسلام للناس كافة وحدة دينية سمحة، تقوم على الفطرة السليمة والمنطق الواعى! إن اليهود والنصارى يرون الحق حكرا عليهم وحدهم، وأن النجاة لن تكون إلا لهم!. لماذا يرسل هذا الحكم المتحيز؟{وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين}. هناك ناس آخرون حسنت معرفتهم لله، وأسلموا له وجوههم، وأخلصوا نياتهم، وأصلحوا أعمالهم، لماذا يهدر جهدهم؟ {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. على هذا الأساس طلب القرآن من أهل الكتاب أن يؤمنوا بالله ورسله جميعا، وأن ينخلعوا من أنانيتهم التي تزين لكل طائفة أن الحق لديها وحدها {وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين}. ثم طلب منهم توسيع دائرة الإيمان حتى تشمل كل نبى أرسله الله لهداية الناس، فلا مساغ لاستثناء أحد {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون}. هذه أصول الوحدة الدينية التي شرحتها سورة البقرة، وعرضتها على اليهود والنصارى، كى يدخلوا فيها، ويتآخوا مع المسلمين في ظلالها، وقبيل هذا التفصيل بين القرآن الكريم أن الإسلام المعروض ليس شيئا جديدا، إنه دين المرسلين الأوائل، يفخر اليهود بأنهم أبناء يعقوب الذي لقب بعد بإسرائيل، والذى أقيمت دولة في هذا العصر باسمه! ماذا كان يعقوب؟ كان رجلا حسن الصلة بالله، يعرفه معرفة وثيقة، ويستسلم لقضائه وقدره، ويدعو أولاده للإيمان به، ويستوثق قبل مماته من أنهم لن يفرطوا في هذا الإيمان مثقال ذرة {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون}.إن هذا الإسلام هو العلاقة العقلية الوحيدة بين الكائنات وربها، بين الناس وخالقهم! أليس من حق الموجد الأعلى أن ترنو إليه الموجودات عابدة خاشعة؟ إذا لم يكن الإسلام لله دينا فهل التمرد عليه هو الدين؟ هل تجاوز حقه هو الدين؟ هل الحكم بغير ما أمر هو الدين؟إن محمدا رد الأشياء إلى أصولها، ومهد لله سبيلا لا سبيل غيرها، ولذلك جاء في هذه السورة {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم} ونلحظ في هذه الآية أدبين كريمين: الأول أنه طلب الإيمان بمثل إيماننا، ولم يقل بإيماننا نفسه تلطفا معهم وتقديرا لأشخاصهم، كأنه يمنحهم حرية التصرف، وإلا فالإيمان واحد! أما الأدب الثانى فإن تكذيبهم لم يجعل سببا للهجوم عليهم، بل تركوا وشأنهم! فإذا جاش الشر بأنفسهم وبدأوا العدوان فإن الله سيحمينا وهو حسبنا، تلك معالم الوحدة الجامعة كما رسمتها هذه السورة، وبقى أن نزيل لبسا قد يخالط بعض الأفهام: ما معنى أن الرسل جميعا مسلمون، والمعروف أن الإسلام هو الدين الذي طلع به محمد على الناس؟ الحقيقة المؤكدة أن الدين منذ الأزل واحد، إيمان بالله، وإصلاح للعمل، وهما معنى الإسلام! المعرفة النظرية لا تكفى، فلابد مع المعرفة أن نقول لربنا: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. ومعرفة إبليس أن الله واحد خلق الكل، لا تغنيه شيئا، لابد أن يضم إلى هذه المعرفة استسلام لأمر الله، وسعى إلى استرضائه، ومادام قد أبى ذلك فقد طرد من رحمة الله. وقد جاء المرسلون قاطبة يعلنون معرفتهم بالله على الوجه الصحيح، كما يعلنون طاعتهم لله في كل ما كلف العباد به!! هكذا فعل نوح وإبراهيم، وهكذا فعل موسى وعيسى ومحمد، ولا نسرد هنا الآيات التي أعلنوا فيها إسلامهم، فالأمر يطول، الجميع كانوا دعاة إلى الإسلام، وإن تفاوتت التشريعات الفرعية على اختلاف العصور. إن الإنسان في صغره قد يسمى فلانا، فإذا كبرت سنه لم يتغير اسمه، وإن اتسعت الدائرة التي تتم فيها تصرفاته، وليس من العقل أن نتصور دائرة التدين في هذا العصر تنطبق على دائرة التدين في عصر نوح، إن مركز الدائرة واحد هنا وهناك، ولكن محيطها قد يتسع باتساع العمران، والشبكة الكهربائية قد تكون ميلا في بعض القرى، ولكنها تكون أميالا طويلة في بعض العواصم، والتيار واحد.وقد ظهر محمد بعد تجارب هائلة خاضها موسى وعيسى مع الناس، فهل يستكثر على الدين الخاتم أن يصحح أخطاء جدت، وأن يقيم طرقا اعوجت، وأن يمحو بدعا حدثت، وأن يسرد في كتاب جاد مفصل الحقائق التي ذهل عنها هؤلاء وأولئك..؟ كانت بعثة محمد ضرورة ماسة لتصويب خطى الإنسانية التي شردت، وكانت لفتا لأنظار أهل الكتاب خاصة إلى المآسى التي ألحقوها بالناس، بالنسبة إلى النصارى كان لابد من توكيد وحدانية الله، وإظهار عيسى عبدا كسائر المخلوقات، مع الإشارة إلى أنه وحوارييه دعاة إلى الإسلام الحق. وبالنسبة إلى اليهود كان لابد من توبيخهم على كبرهم، واستخلاص الوحى السليم من براثنهم، وإظهار أن الله ليست له بجنس ما صلة خاصة. إن الصالحين الأوائل من أتباع موسى وعيسى ينضمون إلى أتباع محمد أو ينضم إليهم أتباع محمد في هذا الحكم الجامع {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. أما بقايا أهل الكتاب التي تعيش الآن لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان، وتهرع وراء شهوات الدنيا مسابقة عبدة الأوثان فلن يقبل لهم زعم، فكيف إذا انضم إلى عوجهم البادى حقد رهيب على الموحدين وإصرار على هدم مساجدهم، وفض مجامعهم: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم}. إن السورة التي نزلت بعد الهجرة مباشرة، والتى عاصرت بناء الجماعة الإسلامية على دعائمها العتيدة، أرست الأصول التي تقوم عليها العلاقات بين أتباع الأديان المختلفة، في الوقت الذي تنادى فيه بوحدة الدين عودة إلى تعاليم جميع المرسلين.استقبل اليهود الإسلام أول ما ظهر بإنكار ومقت، فقد كانوا يحسبون أن الدين حكر عليهم، وأنه لن يتجاوزهم إلى جنس آخر، فلما تمت الهجرة، واقترب الإسلام من مستوطناتهم، قرروا الاحتيال في حربه والمكر بأتباعه. وعرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم صحيفة تنظم العلاقات بين المسلمين وغيرهم، على أسس من المهادنة والتناصر، فقبلوا الصحيفة على مضض، ومضوا في طريقهم يسخرون من الدين الجديد، ويؤلبون عليه، ويطعنون فيه... وتنزل الوحى في صفحات متصلة يوبخ اليهود على مواقفهم ويقرعهم على ما بدر منهم في ماضيهم الطويل، ولم يجد ذلك فتيلا في كسر غرورهم، وإلانة قلوبهم!! فرأيهم في أنفسهم أنهم وحدهم أهل الوحى، وأنه لا يجوز لله أن يختار نبيا بعيدا عنهم. وقد شكك القرآن الكريم في دعاواهم كلها، إذا كنتم مؤمنين بما لديكم فلم تنكرون ما يصدقه؟{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين}؟ ومضى القرآن يثبت عليهم أنهم كاذبون في دعوى الإيمان، وإلا ما قتلوا الأنبياء، ونقضوا المواثيق، واقترفوا المعاصى، أهذا إيمان؟ {بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين}. وأحصت عليهم سورة البقرة بضعة عشر تذكيرا بما كان منهم لعلهم يرعوون! وهيهات. لكن هذا التذكير إذا لم يثن اليهود عن عوجهم، فهو تعليم للأمة الإسلامية أن تستقيم وتستفيد، وأن تتجنب مسالك المغضوب عليهم، لقد قال لليهود من قبل: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} وهاهو ذا يقول للمسلمين: {فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة}. وإذا كان اليهود قد حرصوا على الدين شكلا لا موضوعا، وتشبثوا بالقشور، ونسوا اللباب، فاستمسكوا أنتم أيها المسلمون بالحق الأصيل وأركانه المنشودة {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر} إلى آخر الأركان الستة التي تشرح حقيقة البر، وترسى دعائم التقوى.وتستطرد السورة في بناء المجتمع الجديد، فتشرح كما ذكرنا أركان الإسلام الخمسة، ثم تفيض في حديث عن الأسرة المسلمة، شارحة أحكاما كثيرة في بنائها وقيامها وحياطتها. ولا تنسى وهى تتدفق في هذا الشرح أن تشير إلى ما سلف من اليهود، وكيف تكاثرت بينهم آيات الله فأهدروها، فحقت عليهم كلمة ربك {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب}. أهذا التقرير من قبيل المثل المعروف إياك أعنى واسمعى يا جارة؟.إن هذه السورة تحدثت عن حماية المجتمع الكبير بالجهاد، وعن حماية المجتمع الصغير- وهو الأسرة- بفنون من الأحكام التي تصونها، ولكننا نحن المسلمين تهاونا في الأمرين معا، فلنؤخر مؤقتا الكلام عن جو الأسرة الإسلامية، ولنتناول بإيجاز قضية القتال، وكيف شرحها القرآن الكريم شرحا ينفى عن الجهاد المشروع كل شائبة للعدوان، إننا معشر المسلمين لا نحب الحروب، ولا نعشق ما فيها من دمار وخسار، إننا نؤثر العافية، والاستقرار بين الأهل والأحبة، وقد أقر الإسلام مؤقتا هذه المشاعر: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. لا بأس بالسلام مع صون الحقوق واحترام العقيدة، أما إذا كان السلام يعنى الاستسلام وقبول الدنية فلا مرحبا به!! وفى شرح القرآن لاستباحة الشهر الحرام ترى هذه الموازنة، {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير} أى لا يجوز، لكن، ما العمل إذا أقررتم فيه العدوان، ومطاردة الآمنين، وصادرتم حق العبادة الصحيحة؟ ألا يجب رد العدوان وحماية الحقائق والحقوق {وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله} والنتيجة {والفتنة أكبر من القتل} فليكن القتال دفاعا عن الحرمات والعقائد. وما العمل إذا كنا نتعامل مع قوم لا يرضون عنا حتى ندع ما لدينا وندخل في مقتهم؟؟ إن القتال هنا لابد منه، ولن نسأل بداهة عنه، المسئول عنه غيرنا، بعد سرد هذه المقدمات نفهم معنى قوله تعالى في سورة البقرة: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} هذا حكم خالد إلى قيام الساعة، وكل ما ورد في القرآن الكريم من أول المصحف إلى آخره يتفق مع هذا الحكم، وقد وهل قوم أن سورة براءة تضمنت حكما مناقضا لما جاء هنا، وهذا خطأ مؤسف، فالأمر بالقتال في سورة براءة لم يكن لقوم منصفين أو محايدين أو معتدلين، بل كان لقوم في أفئدتهم لدد، بسطوا أيديهم إلينا بالأذى، ومن ثم يقول القرآن في وصفهم: {إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون}. ثم يحرص على مواجهتهم بالقتال العادل الحق {ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين}!!. فكيف يفهم أحد أن القتال هنا لقوم غير معتدين؟ وأن الحكم هنا نسخ الحكم الوارد في سورة البقرة بأنه لا قتال إلا للمعتدين، إن هذا فهم سوء، وقول منكر بنسخ أحكام خالدة، وفتح لباب التهم المؤذية، ونحن الملومون!. ونشير هنا إلى أن القرآن الكريم يصف القتال الصحيح المقبول بأنه في سبيل الله، ليس في سبيل مجد شخصى ولا منفعة خاصة، ولا قومية باغية تزعم مثلا أن ألمانيا أو إنجلترا فوق الجميع، والقتال الذي ساد العالم في الأعصار الأخيرة كان لنهب ثروات المستضعفين، واستعمار أرضهم لحساب السلاح الأقوى والطرف الأعتى، إنه ليس قتالا في سبيل الله أبدا، إنه قتال في سبيل الشيطان، إن القتال في سبيل الله يكون لاستبقاء عبادة الله، ورفض عبادة الشيطان، ومن الأزل كان الصالحون يتحملون أعباء هذا القتال حتى تبقى بيوت الله عامرة بعباده {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها}؟ من أجل ذلك قال في تسويغ هذه الحروب {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين} نعم فبقاء الحق مرهون بشجاعة رجاله وتفانيهم في إعلاء رايته واستبقاء كلمته.فى سورة البقرة حديث طويل عن قضايا الأسرة، ولما كانت السورة في أوائل المصحف الشريف، فقد يظن أنها أول ما قيل في هذا الموضوع! وهذا خطأ فإن نحو ثلثى القرآن الكريم نزل قبل هذه السورة المباركة، وتضمن تمهيدات لابد من استصحابها عند التأمل في أحكام الأسرة هنا. من ذلك المساواة الإنسانية بين نوعى الذكر والأنثى، التي وردت في سورة النحل {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون}.ومن الطريف أن هذا الحكم قرره مؤمن آل فرعون وهو ينصح جبابرة عصره {من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب}.وجاء في سورة الروم عند الحديث عن آيات الله في ملكوته {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} وأكد ذلك في سورة النحل وهو يسرد نعم الله على عباده {والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة}. إن فهم وضع المرأة، ومكانة الأسرة سبق الحديث عنهما، فلا غرابة في أن تحتوى سورة البقرة تفاصيل لما قد يقع من نزاع، أو يجد من أحداث ينبغى تعرف حكم الله فيها..، لا غرابة إذن في ذكر الإيلاء، والطلاق، والخلع والولادة والرضاع. إلخ. وشرائع الأسرة يستحيل أن تنجح بعيدا عن ضوابط الخلق والإيمان والتقوى، وقد لفتت النظر إلى أن المسلم قد يراجع نفسه بعد الطلاق، فلا يمضى في طريق البت وقطع الحبال، بل يجب أن يعمل عقله، جاء ذلك، في ثمانية توجيهات، تلاحقت في أثناء تقرير هذا الحكم المهم، وقد جاءت كلها في أعقاب قوله تعالى: {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن (1) فأمسكوهن بمعروف (2) أو سرحوهن بمعروف (3) ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا (4) ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه (5) ولا تتخذوا آيات الله هزوا (6) واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به (7) واتقوا الله (8) واعلموا أن الله بكل شيء عليم}. ماذا يصنع دين أكثر من ذلك في لزوم التروى والأدب وصون الحاضر والمستقبل؟ ومع ذلك فقد بلغ الهوس في إيقاع الطلاق حد الجنون، فقد يعلِّق رجل طلاق امرأته على شرب سيجارة، ثم يدخن وينهدم البيت!، وتتمزق الأسرة شظايا، ويتهم الإسلام بالحيف على المرأة!!وقد أشرت في مقال آخر إلى كلمة {حُدُودُ اللَّهِ} التي تكررت ست مرات في آيتين من آيات الطلاق، ختمتا بقوله تعالى: {وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}!! وأغلب المسلمين لا يعى هذه الكلمة، ولا يدرى كم تكررت، ولا لم تكررت؟؟ ويبدو أنهم قوم لا يعلمون!! وقد ظلمت المرأة في بيئات كثيرة، وغريب أن يرد الحيف عليها إلى تعاليم الإسلام التي أنصفتها!! لقد قال الله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة} والآية ظاهرة في تبادل الحقوق والواجبات، وفى تقرير درجة رياسة الرجل، مع إتمام هذا التبادل، لكننى لاحظت في بعض الأوساط الهابطة، أن المرأة عليها وليس لها، وأنها تعامل بامتهان وغلظة، وأنها قد تأكل الفضلات في البيت، وتذهب أطايب الطعام إلى غيرها، كيف تنسب هذه الجلافة إلى دين من الأديان بله الإسلام؟ وأعرف أن هناك نسوة شريرات يملأن البيوت متاعب، والحل لهذه المشكلات كلها لا يقوم به رجال الشرطة، بل يعتمد على حسن التربية والتزام التقوى، والوقوف عند حدود الله... إنه لابد من علم واسع وخلق كريم وتربية أصيلة، وأهل لهم عدل وإنصاف، وأمة قوامة بأمر الله، وقد رأيت أن أجهزة التبشير ترقب العالم الإسلامى بمكر، وتحاول اختراقه من ثغرات تتوهمها أو تجدها، وقد رأت أن أعدادا من المسلمين تهين النساء، وتستكثر عليهن ما آتاهن الشارع الحكيم فسعت إلى تنصير المرأة وإشاعة أن المراد إنقاذها من جور الإسلام!! وتوجد الآن جمهرة من المثقفات وقعن في هذا الشرك، والسبب الأول بعض المتحدثين في الدين من الجاهلين والتافهين.كنت في أحد المجالس فقلت: إن حق الخلع للمرأة يكافئ حق الطلاق للرجل، وإذا وجدت امرأة لا تطيق زوجها بغضا لأسباب تبديها أو تخفيها، وعرضت أن تعطيه ما ساق إليها من مهر، فما المانع أن يجيبها القضاء إلى ما تبغى..؟ قال أحد السامعين: للقاضى حق التطليق للضرر! قلت: هذا شيء آخر إنها لم تشك ضررا، وإنما تذكر أنها تكره البقاء مع رجلها لأمر ما، وتريد تعويضه عن كل ما أنفق عليها، فلماذا نبقيها معه؟ قال: هذا لا يجوز مادام الرجل راغبا عن الطلاق! قلت: بل هو جائز، وللقاضى أن يتصرف بالصلح أو بالخلع. وعلمت بعد أن الرجل يتهمنى بما أنا منه براء، لأنه غير فقيه في الكتاب والسنة!! وويل للعالم من الجهال، الاتجاه عند بعض المتدينين إنكار أن تكون للمرأة شخصية متميزة، مع أن القرآن قرر أن امرأة نوح غير نوح، وأن امرأة فرعون غير فرعون، وأن لكل مسلكه وسيرته {لاتزر وازرة وزر أخرى} وعندما تلد المرأة فإن المغانم والمغارم قسمة بين الزوجين، {لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده} وعند بلوغ الفطام يتشاوران معا في ذلك {فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما}. ومن الشرائع التي نسيت في كثير من مجتمعاتنا شريعة المتعة! إن الطلاق يتم بعد معركة يكتنفها الغدر، والإعراض والجحود، وتحترق فيها المشاعر النبيلة، وليس هذا دينا، فقد يكون أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وإذا وقع لأمر ما وجب كسر حدته بعطية حسنة، تطفئ الغضب وتمنع اللجاجة في الخصام {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون}. إننى أهيب بالمسلمين أن يراجعوا كتابهم وسنة نبيهم في تعرف أحكام الأسرة، وأشرف الأساليب لبقاء البيت المسلم يؤدى رسالته التربوية والاجتماعية، وأن يدرسوا ما يقع في أرجاء العالم من هذا القبيل، فليس من المعقول أن تمنع المرأة عندنا من ركوب سيارة، على حين يعطيها العالم حق اقتياد أمة والسهر على مصالحها. استأنف المسلمون بعد الهجرة تلقى القرآن الكريم، كما كانوا يتلقونه خلال ثلاث عشرة سنة مضت قبلها، وإن كان الجو قد اختلف، فقد كان الحديث عن اليهود تاريخا تؤخذ منه العبرة، أما الآن فالحديث عن اشتباك قائم، وعراك يمس الحاضر والمستقبل.وقد كانت الصلوات تقام على نحو فردى منعزل، أما الآن فالمسجد ينبعث منه الأذان مهيبا بالمؤمنين أن يحضروا، فالجماعة من شعائر الإسلام، وقد يجئ المريض محمولا بين اثنين فيقيمانه في الصف، ما يتخلف عن الصلاة إلا منافق كسول أو معذور محصور...! لقد بدأت معالم الدولة تبرز، وصفة المجتمع الجديد تظهر، وولى السلوك الفردى ليحل محله الولاء المشترك لدين شرع يضع طابعه على كل شئ، فالأسرة كلها تذهب إلى المسجد، الرجال والنساء والأولاد. وبدأت مطاردة المحرمات في البيت والشارع على سواء. إعمالا لقاعدة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر... كما بدأت السرايا تتكون لحماية الإيمان في موطنه الجديد، وقمع من تحدثه نفسه بالعدوان! والقرآن كتاب متشابه المعانى والأهداف، يشرح بعضه بعضا، ويؤكد بعضه بعضا. ومعروف أن التوحيد بدأ غرسه في مكة، وقد حوى القرآن المكى من الآيات ما أخمد أنفاس الشرك، وجعله شبهات داحضة. فإذا تكرر الكلام في العمر المدنى فلمزيد من الإيضاح والتفصيل والتدليل. تلحظ ذلك وأنت تتلو قوله تعالى: {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم} فإن الآية التي تلتها مباشرة حفلت بدلائل الوحدانية منتزعة من فجاج الأرض وآفاق السماء {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} إلخ. والآيات التي تلتها تشرح توحيد العاطفة والسلوك، فالمؤمن يحب ربه، وهو أشد حبا لله من غيره، وثمرات هذا الحب الغالب تظهر في عمله ووجهته. والله سبحانه أهل لهذا الحب، لأن المجد كله والعظمة كلها له وحده، وهنا نسوق أعظم آى القرآن الكريم، آية الكرسى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض} إلخ.وقد يحتاج الإيمان إلى جدال الطواغيت وكبتهم. لا بأس {ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك}؟ إن إبراهيم الذي آتاه الله رشده أخرس الفرعون الصغير، فبهت الذي كفر.وهكذا ترى في سورة البقرة وهى أول ما نزل بالمدينة المنورة لونا آخر من العرض القرآنى لأهم قضايا العقيدة، والهدف واحد في العهدين وإن تلونت الأساليب {ذلك الكتاب لا ريب فيه} إن كانت هناك كتب اكتنفها الريب وساءت فيها الظنون...! ونجح أصحاب محمد في الاستجابة لما نزل إليهم في هذه السورة وفيما تبعها، كان القرآن ينزل وهم يعملون، ويأمر وهم يطيعون. ويخطط للفرد والمجتمع والدولة وهم ينفذون. فأمست المدينة برجالها الجدد ونظامها الجديد عاصمة فذة لأخطر الرسالات. وقاعدة لحركات الأمة الوسط التي هي خير أمة أخرجت للناس. الله يعلِّم رسوله بالوحى، والمسلمون يتعلمون من رسولهم ما ينفعهم وينفع الناس {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا}. وقد بين الله سبحانه وتعالى في الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة أن النبي ومن معه صدقوا الله فصدقهم الله، وأن ما نزل إليهم من أحكام في هذه السورة- وما تلاها- قد صدعوا به وأحسنوا القيام عليه وبذلوا جهدهم في أدائه على خير وجه. وكانوا أشرف منزلة من أقوام سبقوهم جاءهم الوحى فقالوا سمعنا وعصينا، لقد كان العرب أميين ولم يكن لهم في موازين الحضارة العالمية ثقل معروف، حتى نزل بينهم القرآن، فأخذ يزكى سيرتهم، ويرفع مستواهم، ومازالوا يصعدون في مدارج الترقى حتى سبقوا غيرهم من الأمم، وصاروا في صلاح المجتمع وزكاة النفوس وإقامة العدالة أقدر من غيرهم وأشرف، والحضارة التي أقاموها لا تقوم على نعرة جنسية، أو نزعة مادية، أو غايات أرضية، بل على الربانية الخالصة، وجعل الدنيا مهادا للآخرة، ولهذا قال الله سبحانه في نهاية هذه السورة: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير}. ليس لأهل الإسلام عنصر يتعصبون له، أو وطن ينتمون إليه، إن ولاءهم لله رب السموات والأرضين، وخالق الناس أجمعين، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى، ولا فضل لهم على الناس إلا بما يقدمون لهم من دين، وإذا كانت المدينة المنورة قد شهدت البناء الأول للأمة الإسلامية فقد كان ذلك بما عرفته من وحى وصلها بالله، وربطها بهداه، فكان البيت المسلم والسوق المسلمة، والنشاط العام في دواوين الحكم ومدارس العلم، وعرصات الاتجار والزرع، وشئون الأخلاق والتشريع، كان ذلك كله يسير وفق الوحى النازل في الكتاب، والقيادة الهادية من صاحب الرسالة الخاتمة، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم شابا- هو أحدث من معه سنا- فولاه القيادة، لأنه كان يحفظ سورة البقرة!! إنه لا يحفظها أحرفا وأنغاما، وإنما يحفظها إلهاما وأحكاما، ونورا وفرقانا، وهكذا تبنى الأمم... ونقف أخيرا أمام آخر آية في سورة البقرة، فنلفت الأنظار إلى خاصة في الأمم التي تواتيها حظوظ الرفعة والصدارة، إنها تمتاز بالصلف، وتنظر إلى سواها من أعلى، والجنس الأبيض الذي يحكم العالم اليوم تستبد به نزعة من الكبر والترفع على سائر الأجناس الأخرى.! أليس صاحب الحضارة التي غزت الفضاء وفجرت الذرة؟ إن أشباه الرجال فيه يتعالون تحت هذه المنقبة التي حققها نفر من العباقرة. أما المسلمون- إبان صدارتهم، وأيام اختصاصهم بالوحى الأعلى- فهم يشعرون بالخضوع لله، والفقر في ساحته، والحاجة الماسة إليه. ودينهم الاستغفار، وطلب العفو، والتأميل في الفضل الأعلى. {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا}. إلخ. اهـ.
|